ليست (هـوجـة روايات) ... ولا شيئ من هذا القبيل، ولكن شعرت أنه من واجبي أن أشكر د.عزة رشـاد على هذه الرواية المتميزة ... لأسبابٍ قد أجهلها الآن، ويجملها الـصدق والإحساس المكتوبة بـه ...
وهذا فصلٌ منها ... (( والحقيقة أنني كلما اخترت فيها فصلاً .. أغراني الذي بعده!!)) ...
بعد أن دارت بي دورة الأيام الثمانية والعشرين أكثر من ثلاثين مرة في غيابها عادت أمي. عادت بعد أن استبدلت عقلتيّ الإصبع بشابين فارعين، واستبدلت يدها التي كانت تهدهدني بأخرى امتدت نحوي بعلبة من القطيفة سماوية اللون، بها أساور وخواتم ذهبية، كنت أتفرج عليها وأخشى ألمسها، كان من العسير أن أستوعب أنها صارت لي.
صار أخواي رجلين، قويي البنية، عريضي الأكتاف، بأعناق ممتلئة ولحى قصيرة مهذبة، ومسابح لامعة بين أناملهما، يغيبان بالمسجد ولا يجرؤا على الحملقة بوجهي.
أين ذهب الصغيران اللذين كنت أكومهما فوق بعضهما بضربة من سيف يدي أو أستمتع بليّ ذراعيهما فيتحالفا ضدي، لم نعد الصغار الذين يتشاحنون ثم يتضاحكون بعفوية وبراءة، صار هنالك حساب لكل حركة، لكل خطوة أو كلمة.
الحساب الحقيقي كان لي.. بشكلٍ مباشر أو غير مباشر يوجها لي انتقاداتهما لي.. لملابسي، لصداقاتي، لمتابعتي مسلسلات التليفزيون. كنت أرى تلك الانتقادات رغم حدتها طفولية ساذجة وإن لن أنجو من إيذائها في كثير من الأحيان، يذكرني ذلك بتعليمات أمي حين كنت صغيرة: لا تَطلعي على كتاب ليليان ولا تُطلعيها على كتابك. رأت أمي الأمر بهذا الشكل واضحاً ومفسراً من تلقاء ذاته فلم تضف أية كلمة.
ليليان زميلتي لم تطلب يوماً الاطلاع على كتابي كما الشيء نفسه بالنسبة لي، كان بيننا ميثاق تعاون غير مكتوب ـ تنقر بإصبعيها ثمرة الدوم فتتعرف من الرنين أكثرها حلاوة وتنقذني من حيرتي أمام البائع كما أختار لها في كثير من المرات حبات الحرنكش الناضجة بالمواصفات التي علمتها لي جدتي ـ زعزعه لفترة قصيرة تدخل الكبار حين أثاروا حفيظة كل منا تجاه الأخرى، لكن صداقتنا اعتادت الصمود.
نزع التوأم الصور الفوتوغرافية من فوق الجدران، ودقوا أسلاك التليفون الذي رن ببيتنا لأول مرة بعيداً عن حجرتي، واستبدلوا الأغاني في آلة التسجيل بأحاديث كانت تثير قشعريرة خوفٍ ببدني كلما أصغيت لها، كنت أطمئن على علاقتي بخالقي عبر مجس مازلت أعتبره صادقاً هو "الضمير"، فحيث يكون ضميري مرتاحاً أشعر أن الله قريب مني، وأرى نوره في قلبي، مهما بدا ذلك غريباً لأخويّ.
أراهما يتحركان بإصرار ودأب لا يفتر في تعديل كل ما اعتدت فتجول بذهني خيالاتٍ عن عقلتيّ إصبع تتدحرجان فوق رمال حنونة وأندهش من أين أتيا بكل ذلك الصلف والتعنت؟
ما كان يقلقني بالفعل هو تشابههما المثير، أرتبك حين لا أدرك من منهما على يميني ومن في يساري، أرتبك فأنطق اسم أحدهما بشكل جزافي دون أن أنظر لأي منهما حتى يجيبني صاحب الاسم، أرتبك أيضاً حين أتذكر أن ذلك لم يحدث لي مطلقاً قبل سفرهم. وحدها أمي كانت تميزهما ببساطة، في السنوات الخمس الأولى من عمريهما ظلت تلقمهما ثدييها، لكلٍ ثديه الخاص، لا يرضى بغيره ولا يجور على ما لأخيه ولو على سبيل الخطأ. لم تتوقف عن هذه العادة إلا بعدما كبرت عيونهما ونضب حليبها فأدركت أن ولع كل منهما كان بالثدي لذاته، وبعد أحد عشرة عاماً من الفطام مازالت تستيقظ كل صباح فيأتي أحدهما ليقبل كفها اليمنى ويتجه الآخر لكفها اليسرى دون تخبط. هكذا استعاضت عن حب أبي بعطف ولديها، لكن مكانته كرب للأسرة لم تُنتقص من قريب ولا من بعيد. كنت أندهش من تعلقها الشديد بالولدين وتعلقهما بها، تقضي معظم وقتها في غسل ثيابهما الرياضية وكي جلابيب الصلاة، كأن مصائر ثلاثتهم صارت مشتبكة بعضها ببعض بحبلٍ سريّ بعيداً عني. لم يعد الفلفل والشطة اللذين كنت أسوك بهما كلامي وحكاياتي قادرَين على جذب انتباههم نحوي لأكثر من دقائق قليلة.. أغلق عليّ باب حجرتي وأبقى أستمع إلى مسامرتهم في الخارج، في خارج ذاتي، ثم أحاول أن أنساهم، صاروا يمرون بي ولا أراهم، أسترق النظر نحو شرفة جارتنا ذات الثوب الشفاف فأرى حبال الغسيل الفارغة يطوحها الهواء، أرفع رأسي للسماء، بحثاً عن سرب النجوم الذي عرفني عليه منتصر قبل أعوام، حين كنا نتسلق سلالم الخدم إلى الأسطح العالية لنراقب الظهور المباغت للنجوم، فيشير إلي مجموعة صغيرة، بعيدة ومترددة كطفل ضل طريقه مطلقاً عليها "النجوم الأكثر ألفة"، التي كنا نتأملها ونتأمل صورنا فيها ثم نعتلي في الظلام ظهور الأفاعي المسكونة بالرعب، لنعود من حيث أتينا. الآن أبحث ولا أجدها، اختفت النجوم الأليفة مخلفة مكانها أطياف الغائبين.
صرت أرى علاقتي بأمي مثل كيس بلاستيكي يطفو فوق سطح الماء، لا وزن له ولا جاذبية تشده نحو أية أرض، لكنها مغمورة بالسلم، كنت أراها تبتعد عني فأفسح لها الطريق بفتور كي تبتعد أكثر، كأني كنت أهيئ بنفسي فراغاً لما لم أعرفه بعد. رغم صخب حركتهم داخل البيت لا زلت أشعر بهوائه ميتاً، وأحس بشحناتٍ غريبة بالجدران وقطع الأثاث، كأن غياب جدتي كشف أسلاكاً وهمية تجتذب عصابي، كلما هممت بالجلوس بينهم.. أفزع.
عاد أبي بصندوق كتبه العتيق، نفسه الذي سافر به، مغلقاً عليه باب الحجرة التي لن يتنازل عنها بعد انتقالنا لبيتنا الجديد. كنت أتسلل في غيابه إلى الغرفة المسكونة بالرهبة والغموض، داخل ستارة معتمة وإضاءة خافتة بالتواطؤ مع جدرانٍ عالية مغطاة بصناديق الكتب، ومكتب قديم أحيط بصورٍ وقصاصات ورق تدفع بالمساحة الصغيرة إلى الأزمنة البعيدة، يداهمني التاريخ بطعمه القابض وسطوته الطاغية، أرى دولاً تنهار وأمجاداً تندثر، بسلسلة من المكائد والمساومات، التحالفات والانقسامات التي يضيع فيها وجه الإنسان في معارك ودماء وخارطة تتشظى. في ذلك الوقت كنا أقوى الأمم، وفي آخر بدا الانهيار محققاً، هكذا في تبادل هزلي للأدوار عبر التاريخ، يفتح أمامي البوابات اللانهائية للتساؤل حتى أحس رئتيّ كثيفتين بذرات غبار أزليّ فأنزع قدمي بجهدٍ لأبتعد، خشية التورط في متاعب أبي، خشية أن يصيبني ما أصابه.
عاد أبي ذات يومٍ من الشارع ليفتح التليفزيون مسرعاً ومتوتراً، يصيح بصوت مذبوح: إزاي نصالحهم؟ طب والدم؟
اصفر وجه أمي، هرع التوأم للمسجد، وراحت تزخم أنفي رائحة الحريق.
........... ذاكرة التيه ..شغف ياسمين
ذاكرة مشتركة ..ملكة
وفصلٌ آخر منها هنا
انا هاقوليك شىء انا مش فاهم هى دية قصة ولا حكاية نفهم منهاشىء وهى حقيقية ولا لا ومش واضح اية المراد منها,تحياتى
ردحذفأنا آسـف يا كريم، المقطع من رواية، وعليه مش هتتفهم إلا لما تقرا الرواية كاملة :)
ردحذفخالص تحياتي
بشكرك جدا على انك جبت جزء من الروايه دى
ردحذفواظنك تعلم قدر حبى لها
وانا كمان بضم صوتى لصوتك وبشكر هذه السيده التى امتعتنى حقا
جعلتنى اكتئب مع البطله وافرح لفرحها واشعر بنفس ما تشعر تماما
وعاوزه اشكرك بشكل خاص عشان انت جبت الجزء ده بالذات من الروايه
لانى بحس بيه قوى وبحس كم المعاناه اللى حستها البطله فى الجزء ده
واخفيك سرا
ليه واحده صاحبتى بتمر بنفس مراحل التجربه دى بالظبط فمن كتر قربى لصاحبتى دى بحس انها هى اللى كاتبه الكلام ده
فالاستاذه عزه رشاد تحسها فعلا هى كمان مرت بنفس الاحاسيس والمشاعر نفسها عشان تطلع الكلام اللى يمس قوى احاسيس ومعاناه البطله
اشكرك لتانى مره
واحييك ع الجزء ده بشكل خاص