خديجـة ...
افتتحت ورشة نجارة صغيرة في الشارع الجانبي الذي أطل عليه من نافذة غرفتي، تابعت النجار وصبيه وهما يقطعان ألواح الخشب بالمنشار وينعمانها بالفارة ويعدان الغراء على النار ويدقان ألواح المسامير، بعد أيام من المراقبة نزلت إلى المحل وعرضت أن أشاركهما العمل، ضاقت عينا النجار الصغيرتان حتى أصبحتا شرطتين في الثلث الأعلى من وجهه المستطيل وضحك، ضحك بصوتٍ أجشٍ عالٍ أخافني وجعلني أتساءل إن كان الرجل طيبًا أم شريرًا:
ـ يا ابنتي لا يمكن أن تكون صبية في المحل، لأنه –لا مؤاخذة- النجارة ليست "شغلة نسوان"، أعرف أنتِ تريدينها هواية لكن بالنسبة لي والواد محمد (وأشار لصبي تلمع عيناه في العتمة النسبية للمحل كعيني قط عسليتين) النجارة هي رزقنا وأكل عيشنا!.
وعاد النجار للاهتمام بلوح الخشب الذي كان ينشره، وهو يواصل الضحك.. رجعت إلى البيت وأنا أجر قدمي أشعر بالخيبة، ولا أفهم لماذا ضحك مني النجار، ربما لم يقصد سوءًا حين ضحك، ربما حين يتعرف علي ويعرفني ويعرف أنني ذكية وسريعة التعلم يرضى عني ويحبني، وهذا الولد محمد لم يكف عن مراقبتي وأنا أتحدث مع النجار، كان يلبس حذاءً من المطاط وفانلة صفراء قديمة وبنطلوناً رماديًا مهترئًا فلماذا يقبله النجار كصبي ولا يقبلني؟ قال إنها ليست "شغلة نسوان" فلماذا لا تكون كذلك؟! ..
أقضي الساعات في مراقبة النجار من النافذة، أرفض أن ألعب مع "أحمد" و"مجدي" ولا يشغلني إلا إقناع النجار بالعمل معه، أحكي لأبي فتقول أمي أنني فقدت عقلي ولكني ألح، كل يوم أتحدث مع أبي في الموضوع وأطلب منه أن يقنع النجار، حتى كان ذلك اليوم الذي قال أبي لأمي أنه تحدث مع عم "عبد الله" النجار فوجده رجلاً عاقلاً وطيبًا وأنه لا داعي للقلق ... ولم أنتظر لأسمع باقي الكلام بل ركضت إلى الشارع ولم أتوقف إلا أمام باب النجار الذي نظر إلأيَّ بدهشة وكأنه لم يعد يذكرني وعندما ذكرته بنفسي ابتسم، وطلب مني أن أجلس على كرسي وألاحظ ما يقوم به هو "والواد محمد لأنه أسطى وشاطر!"، أغاظتني الملحوظة ولكني قلت لنفسي إن الصبر طيب، وقبلت بالجلوس على الكرسي والمراقبة ولو مؤقتًا حتى يقتنع عم "عبدالله" بأنني أصلح، وهذا الولد "محمد" لا يبادلني أي كلام كأني غير موجودة، إنه ولد مغرور والغرور عيب خطير وهذا ما أكدته مدرسة الحساب في المدرسة.
بعد أسبوع من الجلوس على الكرسي سمح لي عم "عبد الله" بمساعدته، أقلب الغراء، أمسك لوحًا من الخشب، أدق مسمارًا، تعلمت منه أشياء عديدة علمت بعضها لأحمد ومجدي، وفي البيت استطعت إصلاح مقعدٍ كسر أحد قوائمه حتى أن أمي شهدت لي بالمهارة .
محمد لم يعد يتجاهلني وعندما أستفهم منه عن شيء يفهمه لي، إنه ليس مغرورًا إنه لطيف وذكي ولكنه لا يعرف القراءة والكتابة، عرضت عليه أن أعلمه، فقال "إن شاء الله"، ولم أفهم إن كانت إجابته تعني الرفض أو القبول، كررت عرضي فقال على استحياء:
ـ كيف، ومتى ؟
ـ هنا في المحل، كل يوم أعلمك سـاعة.
ـ مستحيل لأن الأسطى "عبد الله" سيقول إننا نضيع الوقت، وأنه لا يدفع لي أجري لكي أجلس وأقرأ في الكتب.
ـ إذن كل يوم جمعة، تأتي لزياراتنا نتغذى معًا وأعطيك درسين، درس قبل الغذاء ودرس بعده، ما رأيك ؟
ـ صعب
ـ لماذا؟
تلعثم وكأنه غير موافق، وكلني أقنعته فوافق ..
فاجأني غضب أمي حين أخبرتها بدعوتي لمحمد، وقالت إنني بلا عقل ولا أعمل حسابًا لشيء.. أمي تتصرف بشكل غريب لا يمكن فهمه، وهي تلقي بالأوامر والنواهي بلا منطق، جلست أنتظر أبي لكي نتفاهم كما يليق بالعقلاء والأذكياء، فاجأني أبي بتصرف أغرب من تصرف أمي، رفض رفضًا قاطعًا ثم أضاف:
ـ لو سمعت أنكِ نزلتِ عند النجار سأكسر رجلك .. مفهوم؟!
تركني دون أدنى احتمال في استكمال النقاش، أبي وأمي يفرضان رأيهما بلا وجه حق، وبدون منطق، فلماذا؟! .. دخلت الحمام، وجلست على حـافة البانيو، بابا ليس غبيًا أنا متأكدة، فهل هو إذن ظالم ومستبد؟! وما الذي سيقوله محمد؟ سيقول خديجة كذابة وكلامها كلام عيال.. ما العمل إذن ؟؟ .. لا أعرف ما العمل .. فأبكي قهرًا
بعد يومين ..خرجت إلى الشارع وانحرفت مع سور الحديقة يمينًا إلى الشارع الجانبي ، ذهبت أولاً إلى البقال واشتريت بكل ما معي من نقود لوحًا من الشيكولاته، ثم اتجهت إلى محل عم عبد الله .
ـ أشكرك يا عم "عبد الله" على الأشياء المفيدة التي علمتها لي، للأسـف لن أستطيع العمل معك لأن أبي يريد أن أساعده في بعض الأشغال.
سلمت على عم "عبد الله" ولم أنظر إلى "محمد" الذي كنت أشعر أن عينيه تتطلعان إلي، وضعت لوح الشيكولاته أمامه .. وركضت عائدة إلى البيت!
رضوى عـاشـور 1989
من رواية (خديـجـة وسوســن)
روايات الهلال
هناك تعليقان (2):
هذه الفتاة/البنت التي تبدو طموحة ومستسلمة، ستغدو بعد قليل (في نفس الرواية) نموذج الأم المستبدة العادلة....
برهافة لغوية شديدة (أعتقد أن هذا المقطع يكشف عنها بجلاء) تدخل "رضوى عاشور" في روايتها الثانية ...(أعتبروا الموضوع ده مكتوب سنة 1990 الصبح) عالم المرأة من خلال سـرد حياة البطلة "خديجة" البنت التي تتزوج مبكرًا، ولكنها تتحول إلى أم ارستقراطية متحكمة في زمام أسرتها، لا تفلت منها إلا "سوسن"، تلك الشخصية الثانية التي يبرز فيها صورة أخرى من الأم كما يشير الأصدقاء، ,,,,,,,
الحقيقة أنني بعدما انتهيت من هذه الرواية الممتعة، وقفت متسائلاً، هل من حقنا أن نحاكم شخصيات هذا العمل، وطريقة تقديم الكاتبة له؟!! ...
سنتحدث فيما بعد
اي والله ي بختهه
إرسال تعليق