"رجـل الاتهام"
كان من بين أولي الأمر في بني إسرائيل شابٌ يتولى اتهام من يخرجون على القانون، وكانت أسرته من أعرق أسرهم، وأعظمهم شأنًا وأكثرهم علماءً، وكان قد بلغ من النجاح مبلغًا عظيمًا وهو بعد في مقتبل العمر، وكان الناس يحبونه ويعجبون به ولا يحسدونه، لما لأهله عليهم من فضل، أبًا عن جد، وكانوا يعلمون عنه أنه أسعد الناس، فقد كان حديث عهدٍ بالزواج، وكانت امرأته أجمل فتاةٍ في أورشليم، ومن أسوط أهلها نسبًا وكان بها مرغمًا وكانت به حفيِّة. وكانت نؤوم الضحى على عادة المترفات الفاتنات في كل عصر، ولكنها رأت أن تبكر في ذلك اليوم، على غير ما ألفت، لتحدث زوجها أعذب الحديث، وكانت تريد أن تطلب إليه أشياءً ولم يكن يجهل ما تريد، وهمَّ أن يسبقها إلى ما ترغب، ثم رأى أن يمهلها حتى تتقدم إليه في دلالها العذب، ولم يخطئ ظنه، فلم يلبث إلا قليلاً حتى أقبلت عليه تقول:
--اليوم عيد مولدي
ــ وهل تظنين أني أنسى ذلك؟
-- وأريد أن تجعله يومًا لا أنساه أبدًا!
ـــ لك ذلك.
-- وأريد أن تخصني به، فلا يشغلك عني أمر آخر!
ـــ ما كان أسعدني بذلك، لولا ما سيجري في "أورشليم" اليوم.
--- لا يعنيني من ذلك شيء، وأحب ألا تلتمس الأعذار، فإنك تعلم أني لا أغفر مثقال ذرة إذا كان الأمر يتعلق بحبك إياي.
ــــ وأنا لا أطيق أن يمر بخاطرك أني أقصِّر في ما ترغبين إلى عمله، ولكن لي في "دار الندوة" اليوم شأنًا أي شأن!
--- وماذا في "دار الندوة" اليوم؟
ـــــ إنهم يطالبون بدم رجلٍ قامت عليه قيامة الناس عامة، جمهورًا وقساوسة وعلماء، ولابد أن نحسم أمره اليوم
----- ومالي ولذلك كله، أترى أن موت رجلٍ من عامة الناس أدعى إلى عنايتك من حبك إياي؟ إنهم يصلبون رجالاً كثيرين كل يوم، أما اليوم فهو يومي، ولا يكون إلا مرة كل عام!
ـــــــ وقد لا يتكرر صلب رجلٍ مثل هذا النبي أبد الآبدين ..
--- وماذا تنقمون منه ؟
ــــ إني عددت عليه بالأمس من الذنوب ما أحفظ عليه قوم إسرائيل كافة، وجمعت عليه من التهم ما أجعل جريمته واضحة لا تقبل رأفة ولا رحمة، فحكموا عليه بالصلب، وأعجب الناس ببلاغتي، وهنأوني على ما أبديت من حرصٍ على الإيمان، وعناية بالوطن، وعلم بالتوراة ولابد أن أتبع نجاحي بالأمس جديدًا اليوم، حتى لا تهن عزائمهم فينكصوا.
---- ألا يزال النجاح معبودكم الأكبر، إنه ليفترسكم ويقضي على فضائلكم كلها.
ـــــ إن تعلقي بالنجاح يرجع إلى حبي لك، انكن لا تعبأن بمن يخفقون.
----إنا لنزهد في النجاح إذا صحبه نقص في إخلاصكم لنا. وأخشى أن تكون قد بلغت هذا الحد من النجاح. وما الذي دفعك إلى هذا الاتهام العنيف؟ أكان ذلك حبًا في النجاح أم كنت مخلصًا، وماذا علمت عنه حتى ألبت عليه قومك، أبك موجدة عليه؟!
ـــ إنه يريد أن يجعل الجهلاء أندادًا لأمثالنا، ويريد أن يجعل الفقراء وإيانا سواء، وفي ذلك قضاءٌ على نظام بني إسرائيل كله، أيروق أن نساوي بيننا وبين ذلك الحداد الذي يعمل أمام بيتك؟!!
---- إني لا أرى لك فضلاً عليه، إلا أني امرأتك وليست له امرأة مثلي، ولا أعتقد أن مساواته بك تكون جريمة يصلب من أجلها الناس!
ــــــ ثم إنه كفر بالله، وأنكر الصفات التي له في التوراة، فهو لا يقول بجبروته وانتقامه، وإنما يقول إن الله هو الحب. ويريد ألا يخاف الناس الله، وإنما يريد لهم أن يحبوه لأنه يحبهم، وفي ذلك خروجٌ على تعاليم التوراة، لابد أن يؤدي إلى الفوضى.
---- أتقتلون رجلاً أن يقول إن الله هو الحب، تلك كلمة لا يقولها مجرم. الله هو الحب!
ـــــ إنك ممتعة حقًا، وجمالك ولطفك يضفيان على خطئك عذوبة، وعلى سوء فهمك للأمور لذة ليست إلا لكِ، أتظنين أن الحب الذي يدعو إليه يمت إلى حب المرأة بصلة، إنه لا يعرف شيئًا عن المرأة.
---- إن المرأة تحب الرجل الذي يفهم الحب أكثر من حبها الرجل الذي يفهم النساء، فأكثر هؤلاء منافقون، إن حب المرأة هو الخطوة الأولى إلى حب الله.
ـــــ إني لا أعرف رجلاً خرج من حب المرأة إلى حب الله !
---- قد يصدق ذلك على الرجال أما النساء فيخرجن من الحب إلى حب الله
ـــــ إن المرأة لا تعرف الحب كما يعرفه الرجل، فالرجل يجب المرأة، ولكن المرأة تحب أن ترى نفسها محبوبة عند رجلٍ بعينه، فهي تحب أن ترى نفسها في مرآة، هي ذلك الرجل الذي تحبه.
---- إن رأيك في المرأة لعجيب، وهل هذا رأيك فيّ أترى أن حبي هو الذي قعد بك عن حب الله؟!
ـــــ إنك لا تزالين على ضلالك القديم. تجعلين كل حديث بيننا، مهما يكن عامًا، يرجع في نفسك إليك وإلي. إن الحب يملأ قلوبكن ولكنه لا قلوب الرجال، إذ ليس للمرأة في الحياة شيء غير الحب. أما الرجل فله بعد ذلك عقله وعمله
---- أترى أن العقل يصحبه البرود حتمًا؟!
ــــ قد يكون ذلك غير محتوم، ولكنه أمر مألوف أن يسمو الحكماء فوق العواطف.
--- إن البرود العقلي ليس غاية الكمال، إني أراك تبدلت منذ الأمس، كان قلبك يخفق لأشياءٍ غير العقل والحكمة، أترى ذلك راجعًا إلى ما وفقت إليه من نجاح؟
ـــ إن قمم الجبال العالية مغطاة دائمًا بالثلج.
--- إني على ذلك أفضل أسفل الوادي، حيث يكون الدفء، ولك أن ترفى وحدك إلى حيث تكون الثلوج!
ثم سكت كل منهما، وكان رأسه إلى صدره، فرفعته ونظرت إليه، فوجدت رجلاً غير الذي تعرفه. خيل إليها إن هذا الذي كانت تحبه قد تغيَّر في غمضة عين، وهمَّت أن تتركه، وأحس هو بذلك فأزعجه أن يكون قد دب بينهما شقاق، وهو على حبها حريصٌ أشد الحرص، وخشي أن يكون تلاعبه بالألفاظ والمعاني قد حملها على الشك فيه، وهو لم يقصد إلى شيءٍ من ذلك.
وأدركت هي أنها أسرفت، وأن ما حدث لا يتعلق بحبه إياها، فثاب إليها اطمئنانها، وقالت:
--- إني أقدِّر واجبك حق قدره، وأعلم ما يجب عليك عمله اليوم، فأعفيك من التفكير فيَّ، وفي عيد مولدي.
ـــــ الآن عرفت فيكِ العقل وحسن التقدير، بد أن كدت أنكر منك هذا الغضب، إن عهدي بكِ أنكِ غاضبة أجمل منكِ راضية، ولكن غضبكِ اليوم جـد لم أفهمه، وسنكون غدًا أسعد الناس، فما يومٌ واحد بمغير شيئًا من حبٍّ أعتقد أنه أخلص ما يكون الحب
---- وإن غدًا لقريب، وستكون قد نصرت الدين والوطن والأخلاق!
ــــ الآن اطمأن قلبي، وسأعود إليك فأجدك على ما عهدتك محبة رقيقة.
وأراد أن يقبلها فأشاحت بوجهها في رفق، وقبل وجنتها فأحسَّ عرقًا باردًا يتصبب منها وأصابه من ذلك قلق شديد...
الرواية ...كمــــا ذكرنــا من قبل متوفرة بمكتبات الشروق في طبعتها الجديدة
في الرواية عدد من الحوارات والأفكار الأكثر ثراءً .... أتمنى لو أتيحت لي الفرصة لأناقشـهـا كلها!!
صــادرة منذ عام 1954، وتتميز في طبعة (مكتبة الأسرة) بتقديمٍ أراه هامًا للدكتور (صلاح فضل) يناقش فيها بعض أفكار الرواية قياسًا على فترة ظهورها .... وغير ذلك ...
هناك 4 تعليقات:
الحوار جميل جدا ومشوق
افتكر انى كده لازم اشتريها علشان اكملها
اشكرك لمشاركتنا هذا الجزء من الرواية
تحياتى
حلوة قوى بجد
مستر ابراهيم
طبعاً أنت عارف رأيي , بس مفيش مانع نقوله تاني عشان بقيت الناس تعرف :
لغة النص غير ملائمة تماماً للمرحلة التاريخية التي تدور فيها الأحداث :
فهي لغة قرآنية في زمان ما قبل نزول القرآن , و بالتالي فقدت مصداقيتها عندي . و لو اللغة فقدت مصداقيتها , تسقط جميع العناصر المكملة تبعاً لسقوط اللغة .
صديقي ابراهيم عارف اني صدمتك
بس صدقني الجزء اللي نشرته ضعيف فنياً و حط خط تحت كلمة فنياً عشان مش عارف اعمله .
إيمان:
منورة المدونة ...
والرواية فعلاً حلوة جدًا، أكثر من كده كمان ... تحياتي
************
غير معرف: ..ما أنــا عارف
ــــــــــــــــــ
محمد باشا سلامة:
هوا مع احترامي الكامل لرأيك لكنه رأي له منطقه الخاص، لا يخرج ذلك "كون" الرواية ذات طابع خاص، وقدمت عددًا من الأفكار المثيرة للجدل بلغة عصرها...
أما الضعف الفني، ففي هذا نختلف للصبح
إرسال تعليق