كنت أقول لآخري الملتصق بي ككيانٍ
واحد، أو يود على أغلب الأحوال أن يبدو كذلك لاسيما في الآونة الأخيرة، كنت أقول
له لا خير فيك إن لم تقل، ولا خير فيَّ إن لم أكتبها! .. وإذا كنت تجهدني طوال
الوقت بالأفكار غريبها وجديدها، عاديها ومستهلكها فما عليَّ إلا أن أمتثل لفكرتك
الامتثال الأكمل أو الأصوب، وأحاول جاهدًا أن أصل بها أولاً إلى سطح الورق وثانيًا
إلى نفوس المتلقين وثالثًا إلى شاطئ السلامة، وكنت متكئًا فجلست وقلت .. سلامتنا جميعًا
يا عزيزي، إنك لا تعلم من أين تؤتى الحكمة، أليس كذلك؟!
وكان يحدثني غير قلقٍ ولا هيَّاب،
وأسمعه وأنا له مصدِّق ولحديثه مؤمِّن وعليه رقيب: أن من النعم الخفية نعمة "الخذلان"! ويقول تكلِّم ..
فأحدثه أن للقلب اعتيادٌ على
السهام بعد كثرة ورودها والتقاعس عن صدودها، وإلا ما قال أحدهم "فؤادي في
غشاءٍ من نبال"* وأن للألم لذَّة لا يدركها إلا غارقٌ في الحزن متألمٌ بإتقان،
فهو إذ يتعرّض أو يعرِّض نفسه لهاتيك السهام والتي تليها بسرعة أكبر، يكون كذلك
الفدائي الذي آثر أن يلقونه ب"كرة النار" على بوابة "القلعة
الحصينة" حتى يدخل الناس من بعده أفواجًا ويتحقق النصر ، ويبقى الغريب
غريبًا!
استوقفني فجأة .. وقال كلماتك
وعباراتك تزيد الطين، وما نحن بمستيقنين، ولا تفي بالمعنى المقصود ولا المراد، تستهويك
عبارات الألم والحزن والطعنات والسهام، لتبدو لقارئك ضحية مسكينة مغلوبٌ على الأمر
أعمل الجلادون فيك سياطهم فلم يبقوا لك على رمق! وما الأمر يا هداك الله كذلك وما
كان له أن يكون..
وكنت أنصت علِّي أصل من حديثه لما
انقطع، أو يبين لي من كلماته ما خفي واندثر، فيقول تكلَّم..
فأقول له ليس الأمر كما رميت، كان
الحديث في الأصل إليك، فما أنت بطالبٍ من أحدٍ شفقة ولا مستجدٍ من عابرٍ نعمة! الأمر
كله مردَّه فيك منك وإليك.. وعليه ستبقى على العهد بهم جميعًا، كأن شيئًا ما كان
متمثلاً قول القائل (أمشي وأضحك يا ليلى مكابرةً .. علِّي أخبي عن الناس
احتضارا...)
كاد يضربني بشيءٍ غليظٍ بين يديه
ويقول ما احتضاراتك قاتلك الله! إنك تبالغ بطريقة فجَّة، فقلت له هم الشعراء، فقال
ما أنت بشاعر ..فواصلت بعد أن ابتعدت أقول: القصد أن تستمر كما أنت لا تشكو ألمًا
فما أحدٌ بسامع، بل ارتق قلبك من جديد فإنه يكون أشد وأقوى، ولا يتشد ويقوى إلا
بتوارد تلك السهام وتقبلك إياها بنفسٍ راضية، ما عليك إلا أن تنزع سهمًا لتتلقى
الآخر ..
تنهَّد واستراح، ومال بظهره إلى
الوراء وكاد يبتسم ..
ها قد اقتربت من المعنى، فهلاَّ
سكتت الآن فورًا!
وما كدت أسكت حتى بادرني: ولكن
حدثني عن فائدة البعد والترك..
ابتسمت أنا وقلت بأريحية كاملة:
إنك إن ابتعدت عنهم شعرت بصدرك أكثر اتساعًا وروحك أكثر انطلاقًا (وكان صدري يضيق
وقلبي ينقبض وروحي تختنق ولا ينطلق لساني!) وما إن يتواردون على ذهنك المكدود بتذكرهم
المهموم بشأنهم بعد ذلك حتى تتسع ابتسامتك (كالأبله ولم أقلها) وتشير إليهم كما لو
كانوا نجماتٍ لامعة في سماءٍ سوداء .. (أنا هنا خذوني معكم ..) وهم .. يا إلهي
(أمقت الزيف) يبتسمون لك بودٍ ظاهر (وأكره الحقيقة) وتشرق أرواحهم بمرآك ويرسلون
إليك أياديهم ملوحِّة (كمراوح تنقض على روحك) (نحن هنا .. ابق كما أنت) ..
ولكنه لمح ما بوجهي من سواد، ومسحه
بيده الكريمة، وقال .. وفي ذلك؟
قلت: وفي ذلك فوائد جمَّة حصرها كل
أولو الألباب وكتبوا عنها مؤلفاتٍ عظيمة ما عليك إلا أن تعود لها ..
فيبتسم ابتسامته الأخيرة، ويقول
هلاَّ أجزت، فأرد عليه بيسر .. لقد أجهدتني .. وآن أن نستريح!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عجز بيت صدره (رمانى الدهر بالأرزاء حتى) .. للمتنبي
هناك 3 تعليقات:
أجمل ما فى النص لغته واستحضاره أجواءً تراثية
"نحن هنا .. ابق كما أنت"
ربما لم يقصدوا أن تظل داخل مكانك البعيد.
ربما أرادوا أن يقولوا لك : احتفظ بمحبتك كما هي ولا تخف.
ثم لماذا يبحث الخذلان عنك؟
إنك لا تتناسب مع ألوانه أبدًا
كيف يتسلل إلى أرضك دون أن يخشى ضحكة ريم.
أو أن يتسمم بكل هذا الحب الذي يدور في الأجواء.
انظر جيدًا
ربما لم يكن خذلانًا
لعله انتظار صغير في منتصف المسافة بين ما يحدث وما سيحدث
أغمض عينيك وتذكر أصدقاءك
لا يمكن أن تنهزم ومعك كل هؤلاء
:))))
محمد:
وأجمل ما فيه حضورك أيضًا.
....
ست غادة:
أولاً الخذلان ده شيء جميل جدًا ما تقوليش عليه "يتسلل" :)
ثانيًا أنا مش عاوز أنظر جيدًا الحقيقة ولا أغمض عنيا ..
.
ومين جاب سيرة الهزيمة؟!
.
أنا منتصر جدًا :)
.
.
.
حتى شووفي
إرسال تعليق