طبعا قبل نوبل لم تكوني لتعرفي يوسا، وربما حتى الآن أنت لا تعرفيه . . .
وإن كنت لا أكتب عنه لفوزه بها، إذ ربما كما تعلمين دائما لا يكون فوزهم بالجائزة شرطا لجودة ما يقدمون، ولعل ما يؤكد ذلك ما قدمه في "امتداح الخالة" من سوء، وما قد ينفيه فورا ب"حفلة التيس" مثلا!!
.
ربما تعلمين حكايتي مع الأدب المترجم عموما، وربما يحكي لك "ماركيز" ما أفعله معه طوال الوقت، بل وقد ينضم إليه الراحل "ساراماجو" أيضا!*.
.
.
إلا أن الأمر مع يوسا . . يبدو لي الآن مختلفا، وليس ذلك لفرادته، أو براعته، أو فوزه، بل الأمر كله -يا عزيزتي- لا يعدو "حوارا" قديما، أجرته معه الشاعرة "جمانة حداد" كنت قد تعثرت به، ووجدت فيه (الحوار ويوسا) ما أنطقني!
فحتى أن لم أقابل الرجل وجها لوجه! ، وإن لم أسافر بيرو -بلدته- في حياتي، وحتى إن لم أكتب مثله روايات، ولم تسع لي جائزة مخترع الديناميت تلك، يظل مايجمعني بهذا الرجل أكبر من هذا كله بكثير، ألا وهو . . الكتابة، أوهم الكتابة!
فنحن في أوطاننا العربية ننشغل بالهم أكثر
الحوار أدارني حوله كثيرًا، وأخذت أقتبس منه مقولاته وردوده أكثر، حتى فوجئت بأني اقتبست الحوار بأكمله تقريبًا!
يقول :
انا شخصيا عاجز تماما عن كتابة قصة لا تملك كنقطة انطلاق ذاكرتي، اي اشخاصا او مواقف او صورا من التجربة. الذاكرة عندي هي نقطة انطلاق الخيال، ابني فوقها او انسج حولها فيبدأ “الكذب”. لذلك هناك دائما مواد ذاتية من سيرتي في اعمالي، وهي النواة مهما كان حجمها ضئيلا. حوافز الكتابة امر ساحر، وفي الوقت نفسه غامض جدا. لا احد يعرف لماذا يكتب حول اشياء معينة، ولماذا تتركه أشياء اخرى لامباليا.
يسود الاعتقاد بأن الخيال يؤمن مساحة حرية أكبر من الواقع، ولكن الا تظن ان الكاتب يكون احيانا اكثر حرية عندما يكون “يتذكر”، منه عندما يكون يتخيّل؟
- سؤال مثير للاهتمام. فعلا، الاختراع نشاط مشروط جدا، والمرء “يخترع” ما يخترع لا مدفوعا بحريته كما يتوهم، بل لأن امورا معينة حصلت معه ودفعت لاوعيه الى كتابة ما يكتب. الدافع الى الكتابة يأتي من الداخل، من القاع المعتم والغامض، وهو الذي يوجهنا في اتجاهات محددة دون اخرى. انا المس ذلك خصوصا عندما اقرأ كتب غيري، لأني أرى آنذاك الهواجس، هواجس الكاتب، تتكرر من كتاب الى آخر تحت أقنعة مختلفة، لكنها تظل هي نفسها.
. أن نتعلم السيطرة على نسيج اللغة ودفقها يعني أن نتعلّم كيف نفكّر، وهي أيضاً وسيلة لكي نطوّر حساسيتنا وخيالنا وفكرنا النقدي. ولكن أتعرفين، عندما افكر في بداياتي، ارى ان التجربة لم تنفعني في شيء. ما يحصل معنا لا يشبه ما يحصل مع الاطباء او المهندسين او المحامين مثلا، الذين يزدادون ثقة وشعورا بالامان حيال مهنتهم مع الوقت بسبب المراس والتجربة. العمل الابداعي لا يؤدي الى ذلك الشعور بالامان، حتى لو كنت قد ادركت كتابك السبعين: انه الارتباك نفسه، الخوف نفسه، اكاد اقول الجزع، امام الورقة البيضاء الارهابية، وتهديد الخواء.
لا اتكلم على الطواويس، التي تحوّل نفسها اصناما من فرط غرورها التافه، بل على المبدع الحقيقي. لا مفر من ان يظل هذا قلقا، بل هو كلما تقدم اكثر في العمر وازدادت تجاربه، ازداد خوفا وشعورا بالمسؤولية لأنه يحدد لنفسه اهدافا اصعب ويغدو اكثر وعيا لحدوده. الطمأنينة شعور غريب على المبدع. المبدع كل مرة مبتدىء، كل مرة يقول في سرّه: ربما لم يعد عندي شيء اقوله. لكنه يحفر. ويحفر. ويجد ما يقوله. هكذا يصبح اكثر قساوة حيال نفسه مع الوقت، واكثر انتقادا لنصه، واكثر ادراكا لما عجز عن تحقيقه، والا فلن يعيش. أنا لم اخف عندما اصدرت روايتي الأولى مثلما اخاف الآن. ثم هناك خطورة ان يكرر نفسه: هذا التهديد يجب ان يكون حاضرا في ذهنه دائما، مع ما يحرضه عليه من تجارب جديدة ومختلفة قد لا تكون بالضرورة ناجحة. اينما التفت المبدع هناك الغام، فكيف يشعر بالطمأنينة؟ المبدع بطل راسيني درامي بامتياز.
ـ
- فلوبير علمني الانضباط، اي الجلوس والعمل في شكل منهجي ومنظم. اعتقد انه اذا لم يكن الكاتب يملك حظ ولادته موهوبا، عليه ان “يصنع” موهبته بالكد والعمل والانتقاد الذاتي، مثل فلوبير. طبعا ثمة حالات استثنائية ونادرة، هي حالات العبقرية الفطرية الصاعقة، اكاد اقول الجينية، لكتّاب يكتبون منذ شبابهم اشياء رائعة. ولكن ليس هذا المعيار. عندما يقرأ المرء الاشياء الاولى التي كتبها فلوبير، لا يستطيع ان يتخيل ان هذا سيكتب تحفا في ما بعد. لكنه كان صاحب روح مثابرة ويهجس بفكرة الكتابة، فعمل وعمل وعمل حتى انفجرت عبقريته اخيرا. المساعدة الافضل التي جاءتني عندما شرعت في الكتابة هي قراءة مراسلات فلوبير حول عمله على مدام بوفاري. انه عمل متقن ودقيق على كل كلمة وعلى كل جملة بغية الوصول الى الجملة الكاملة وتاليا الى الرواية الكاملة، وقد حرضني ذلك كثيرا.
......... . . .
بالضبط، وانطلاقا من تلك المرحلة حصل طلاق او انفصام بين النوعية والكمية. بات للادب الجيد جمهور محدود، يوصف بالنخبوي، وللادب التجاري جمهور عريض هو الاستهلاكي، ما عدا بعض الاسثناءات. ولكن اذا اردت رأيي، أفضل ان يقرأ الناس بست سيللر على الا يقرأوا ابدا او على ان يشاهدوا التلفزيون فقط. ليقرأوا “شيفرة دافنشي” ويتسلوا اذا شاؤوا، لا بأس، ولكن ليقرأوا.
ولكنها قراءة “تتفّه” و”تبذّل” الذوق الأدبي، ومن يعتاد قراءة هذه الاشياء يصبح عاجزا في ما بعد عن قراءة ادب حقيقي، كبروست او بورخيس او كافكا او جويس، لأن هذه ستتطلب منه جهودا ما عاد مستعدا او جاهزا لبذلها فكريا.
- صحيح، ولكن كل هذه السلبيات تظل أقل ضررا من طغيان الصورة. فضلا عن انه يقع جزء من اللوم على بعض الكتاب الذي ينتجون أدبا مستحيلا يبدو مكتوبا لتيئيس الناس وارباكهم في شكل مجاني: وليست هذه بالطريقة الناجعة ليربح الادب الجيد. فمثلما السياسي الفاسد يسيء الى صورة السياسي النزيه، كذلك الكاتب السيىء يسيء الى صورة الكاتب الجيد.
* يبكـون ـ باختصـار ـ لفرط التجاهل! كنت كلما مررت على كتابِ لأحدهما في مسقط (مكتبة) أو ملقط (ع النت) سارعت باقتنائه، فأما ماركيز فلا أقترب من كتبه إلا لمامًا، أوما الراحل ساراماجو فكنت كلما بدأت رواية له عجزت لسبب أو لآخر عن إتمامها!!!
هناك تعليق واحد:
البوست فعلا جميل قوووووووووووووى
وانا حسيت فعلا انو بيقرانى من جوايا
فى حاجات كتير قريتها كانت انا بس مكنتش عارفة اقولها ازاى
حوار يوسا داهايل
اكتر جزء عجبنى لما قال"انا شخصيا عاجز تماما عن كتابة قصة لا تملك كنقطة انطلاق ذاكرتي، اي اشخاصا او مواقف او صورا من التجربة. الذاكرة عندي هي نقطة انطلاق الخيال، ابني فوقها او انسج حولها فيبدأ “الكذب”. لذلك هناك دائما مواد ذاتية من سيرتي في اعمالي، وهي النواة مهما كان حجمها ضئيلا. حوافز الكتابة امر ساحر، وفي الوقت نفسه غامض جدا. لا احد يعرف لماذا يكتب حول اشياء معينة، ولماذا تتركه أشياء اخرى لامباليا"
حسيتها قوى
جميل البوست حقيقى
واتمنى انك تنشر بوستاتك على الفيس
لانها فعلا جميلة قووووووووووى
إرسال تعليق